مفهوم الدولة في الإسلام

عندما يُذكر مصطلح “الدولة الإسلامية”، يتبادر إلى الأذهان فورًا مشاهد الخلافة الراشدة، أو نموذج المدينة في عهد النبي ﷺ، أو حتى بعض لحظات المجد في العصور الأموية والعباسية والعثمانية. لكن وسط هذا التبجيل التاريخي، يُطرح سؤال جوهري: هل الدولة في الإسلام غاية تُعبد، أم وسيلة تُستخدم؟

منذ البدايات، كان واضحًا أن الإسلام لم يأتِ ليقيم دولة بحدودها الحديثة، بقدر ما جاء ليؤسس قيمًا أخلاقية تحكم علاقات البشر. النبي ﷺ لم يكن ملكًا، ولم يؤسس سلالة حاكمة، بل كان قائدًا لمجتمع تعاقد على مبادئ الشورى والعدالة والرحمة. حتى خلافته ﷺ في المدينة لم تكن نموذجًا لحكم مركزي استبدادي، بل صيغة مرنة قامت على التوافق والميثاق، كما يتجلى في صحيفة المدينة، أول وثيقة تنظم التعايش بين المسلمين واليهود والمشركين ضمن عقد اجتماعي واحد.

ومع مرور الوقت، أصبحت الخلافة عنوانًا للشرعية السياسية، لكنها لم تكن دومًا تجسيدًا للمبادئ التي حملها الإسلام. فهل يمكن إذًا اعتبار “الدولة الإسلامية” كما عرفناها تاريخيًا، تطبيقًا مثاليًا للإسلام؟ أم أن الدين كان دومًا أكبر من الأطر السياسية التي حُبس فيها؟

هنا تبدأ المعضلة: في غياب أي نموذج واحد موحّد، اختلف المسلمون عبر القرون حول طبيعة الدولة، مصدر شرعيتها، ومن يحق له قيادتها. بعضهم رأى أن الحكم لله وحده، وآخرون قالوا إن الناس هم من يختارون ممثلهم السياسي، فيما اجتهد فقهاء في رسم ملامح دولة تجمع بين المبادئ الإسلامية ومقتضيات العصر.

إن هذا الجدل لا يخص الماضي فقط، بل يمتد إلى قلب أسئلتنا اليوم: هل الدولة الإسلامية ممكنة في العصر الحديث؟ وإذا كانت كذلك، فبأي شكل؟ وبأي شرعية؟

مفهوم الخلافة والدولة الإسلامية

غالبًا عندما يتم الاستشهاد بالأنظمة الإسلامية التي لاقت نجاحًا، يتم التركيز على الخلافة الإسلامية. لكن ينبغي ألا ننسى أن الدولة مطلوبة لتحقيق غاية وليس لذاتها؛ فوجودها وسيلة لخدمة الناس لا غاية تعبَّد. ويُثار هنا الادعاءان الكبيران: الدولة الدينية تستمد قوتها من الله، بينما الدولة المدنية تستمد قوتها من الشعب، فهل البديل الوحيد للدولة الدينية هو الدولة «اللادينية»؟

ومن أبرز مشاكل الحكم الإسلامي التاريخي هو أن البيعة غالبًا ما كانت محصورة في العاصمة فقط، وعلى بقية الناس القبول والتسليم. كذلك، يظل الخليفة في منصبه حتى موته، سواء أحسن أو أساء، مما يؤدي غالبًا إلى استبداد أو ضعف في الحكم.

الدولة الراشدية

كانت فترة الخلفاء الأربعة فترة مميزة انتهت بأحداث مأساوية، حيث انتهت باغتيالات متتالية وفتنة كبرى قسمت المسلمين. ورغم وجود البيعة كأساس للاختيار، إلا أن هذه الحقبة لم تخلُ من الصراعات السياسية والدينية. فالخلافة اختيار الناس لا اختيار الله، والبيعة لا تلزم الجميع قهرًا، ولا نصّ ملزمًا بالخلافة سوى مبدأ «وأمرهم شورى بينهم». أما الخلافات اللاحقة كالأموية والعباسية والعثمانية، فقد قامت على الحروب والانقلابات وخالفت تعاليم الإسلام الجوهرية. فقد أمر الله بالشورى: “وأمرهم شورى بينهم”، لكن هذه الأنظمة اتبعت الوراثة بدلاً من المشورة. الشعارات الطنانة لا تبني دولة، والناس حجة على الحكام لا العكس.

كمسلم، لا أشكك بقدرة أبي بكر رضي الله عنه في قيادة الدولة الإسلامية، فقد كان اختيار النبي صلى الله عليه وسلم. لكن النبي نفسه لم يُلقَّب بملك، مع أن داود وسليمان جمعا بين السلطتين، ما يؤكد بشرية منصب الحاكم وإمكان مساءلته. أما باقي الإمارات الإسلامية كالأموية والعباسية والعثمانية، فكانت ملكيات بحتة، ولا توجد عائلة حاكمة أثق في أمانتها أو نزاهتها.

الدولة الأموية

بدأت الدولة الأموية بفتنة بدأت بمقتل سيدنا علي في عهد معاوية, والتي قام بها من الخوارج. 

وعند موت معاوية وتحت امارة ابنه يزيد, قتلوا الحسين لرفضه مبايعة يزيد وقتلوا معه ولديه: علياً الأكبر، وعبد الله، وإخوته جعفراً، ومحمداً، وعتيقاً، والعباس الأكبر، وابن أخيه قاسم بن الحسن، وأولاد عمه محمداً وعوناً ابنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ومسلم بن عقيل بن أبي طالب، وابنيه عبد الله، وعبد الرحمن . 

وعندما تسلم عبد الملك الخلافة من والده, بعد بالحجاج الى مكة ل

نصب الحجاج المنجنيق على مكة, مكان ما كان يحتمي سيدنا عبد الله بن الزبير بمكة, لم يكترت الحجاج لذلك فجعلوا يرمون بالمنجنيق ، فقتلوا خلقا كثيرا ، وكان معه خمس مجانيق ، فألح عليها بالرمي من كل مكان ، وحبس عنهم الميرة فجاعوا ، وكانوا يشربون من ماء زمزم ، وجعلت الحجارة تقع في الكعبة. و هكذا قام “خليفة المسلمين” عبد الملك بمخالفة كتاب الله عندما خالف قوله و  أمرهم شورى بينهم. و خالف أيضا الحجاج قوله تعالى {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}, و الآية كانت تحرم قتال المشركين في الكعبة فما بالك بمقاتلة الصحابي عبد الله بن الزبير ابن الصحابة الزبير أجد المبشرين بالحنة حفيد الصحابي أبو بكر صاحب رسول الله, والله لا احسب أميرا للمؤمنين يقيم امارته بمخالفة تعاليم القرآن … 

الدولة العباسية

الدولة العباسية رغم ما يُذكر عن العصر الذهبي للعلم والنهضة في بغداد، فقد شهدت الخلافة العباسية ممارسات أبعد ما تكون عن روح العدل والشورى:

فمثلًا، في عهد الخليفة المأمون حبس أحمد بن حنبل لاختلافه معه أن القرآن مخلوق محدَث واستمر حبسه ثماني وعشرين شهرا.
كما شهدنا إعدام الحسين بن منصور الحلاج بسبب آرائه واجتهاداته الروحية، وهو تصرف بعيد كل البعد عن التسامح الإسلامي.
وفرض بعض الخلفاء ضرائب ثقيلة أثقلت كاهل الناس لتمويل حياة البذخ والترف في قصورهم، ما يخالف تمامًا مبادئ العدالة الاجتماعية التي يحث عليها الإسلام.

كما عانى الكثير من العلماء و رجال الدين مثل  أبو حنيفة النعمان و مالك بن أنس و الشافعي و غيرهم. 

الدولة العثمانية

الدولة العثمانية في الدولة العثمانية، كانت الأمور أيضًا بعيدة عن المثالية. إلى جانب قوتها العسكرية وتوسعها الكبير، شهد تاريخها مواقف وأحداثًا مثيرة للجدل لا يمكن تجاهلها. من أشهرها المجازر الحميدية التي حدثت بين عامي 1894 و1896، والتي راح ضحيتها آلاف من المسيحيين الأرمن والآشوريين في حملات عنيفة ومروّعة. ومجزرة الأرمن الشهيرة عام 1915، التي قُتل فيها أكثر من مليون شخص بسبب الشكوك في تعاونهم مع الروس خلال الحرب العالمية الأولى.

من جهة أخرى، لم تكن الدولة العثمانية رحيمة حتى مع منتقديها المسلمين؛ فقد أُعدم الشيخ بدر الدين لأنه انتقد نظام الحكم الإقطاعي وطالب بالمزيد من العدالة الاجتماعية. أما في السياسات الاقتصادية، فكانت المصائب بالجملة، حيث منحت الدولة امتيازات واسعة للدول الأجنبية مثل بريطانيا وفرنسا، تضمنت إعفاء التجار الأجانب من الضرائب وإخضاعهم لمحاكم خاصة تديرها قنصليات بلادهم، ما ضرب الاقتصاد المحلي في مقتل. وحتى القطارات والسكك الحديدية، من بغداد إلى الشام، صارت تحت السيطرة الأجنبية.

ماهو الإسلام الصحيح ؟

لا يوجد شيء اسمه “قوانين الإسلام”. إنها ممارسات شخصية للإسلام  والغالبية العظمى من الشريعة التقليدية هي ذات طبيعة فردية. فالكثير من الإسلام له علاقة بأداء العبادات ، وكيفية الصلاة ، وما الذي يجب تناوله ، وما الذي يجب ارتداؤه ، والسلوك الصحيح للنساء والرجال ، وما هو الحلال أو حرام.

و لأن هناك تعريفات متعددة مختلفة للشريعة التي ليست في حد ذاتها مجموعة مدونة من القوانين. هذا واضح عندما النظر الي كيف يطبق نفس الاشخاص . من هو الصحيح؟

وتجد اليوم بعض الاشخاص, يقول لا نأخد بفلان فهو سلفي, والطرف الأخر أيضا لا يأخد بكلامه لأنه من أهل البدع ! وكلاهما يشهد بأن لا إله إلا الله و أن محمد رسول الله و يصوم و يصلي و يحج ومع ذلك كلاهما  يحاول دحض اراء الاخر ! طبعا هذا كله ضمن أهل السنة و الجماعة,  و بعدها تجد مختلف الطوائف يؤمنون بافكار متناقضة ان امنت بواحدة بافنت كافر بنظر البقية وكلاهما يستجدم القران نفسه لاثبات صحة كلامه ! 

تطبيق الشريعة بين النظرية والواقع

منذ نزول الوحي والمسلمون يتساءلون: هل تُطبق الشريعة حرفيًّا كما وردت في النصوص، أم تُفعَّل مقاصدها بما يناسب كل بيئة وزمان؟ ابن القيم حسم الإشكال بجملته الشهيرة: «تتغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان»، بينما ذكّرنا النبي ﷺ بقوله: «أنتم أدرى بشؤون دنياكم» بأن إدارة الدولة شأن بشري قابل للاجتهاد.

أولًا: مرونة النص وضرورات الواقع

  1. الزكاة للمؤلَّفة قلوبهم فالمبدأ النصي ثابت في آية الصدقات. لكن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوقف هذا الصنف حين زالت حاجة الدولة إليه، مستندًا إلى تغير الظرف السياسي.

  2. النص واضح في قطع يد السارق، لكن عمر عطَّله لأن المجاعة أوجدت «شبهة الاضطرار»، فدرأ الحدَّ بالمبدأ الأصولي «الحدود تُدرأ بالشبهات».

  3. قاعدة «شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا»: تجيز اقتباس الشرائع السابقة ما لم تُخالف نصًّا إسلاميًّا، دلالة على قدرة الشريعة على التكيّف مع الأنظمة المقارنة.

ثانيًا: اختلاف الفقهاء في الحدود الشخصية

أ. حكم تارك الصلاة

فمثلا, البعض يجيب ضرب تارك الصلاة و حتئ قتله مالم يتب و يتسجهدون بذلك ابن تيمية: 

“وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ يَأْمُرُهُ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ، وَلَمْ يُصَلِّ، فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ؟.فَأَجَابَ:إذَا لَمْ يُصَلِّ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.”  كتاب مجموع الفتاوى - ابن تيمية ج 22 - ص 54

ب. فرض الحجاب

قالت لجنة الفتوى بموقع “إسلام ويب” إن الحجاب فريضة فرضها الله على المسلمات، «وعلى الحاكم أن يحمل النساء المسلمات عليه ويلزمهن به، وكذلك غير المسلمات من أهل الذمة»، مستدلين بكون تغيير المنكر من وظائف الحاكم المسلم، وتشمل حدود اللباس وحفظ الحياء العام

و يذكر أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أنه فرض غرامات على النساء اللاتي كن يخرجن بوجوههن مكشوفة في الأسواق، بحجّة “حفظ الحياء العام”. و أيضا في العصر العباسي، أنشأت الدولة قُضاةً للحياء مهمتهم مراقبة المظهر العام، بما في ذلك إلزام المرأة بالستر وفق معيار زمانه ومكانه.

على الجانب الآخر، هناك من يرى أن الإسلام لم يفرض الحجاب إطلاقًا، مثل الباحث خالد أبو الفضل الذي يرى أن مفهوم الجلباب في القرآن لا يعني الحجاب المعروف اليوم وإنما هو ثوب خارجي عام يرتديه الرجال والنساء، وأن السياق القرآني كان موجّهًا لمواجهة مشاكل اجتماعية محددة مثل التحرش والاعتداء على الجواري في زمن النبي، وليس لتحديد تفاصيل زي المرأة المسلمة.

سلطة التأويل وصراعاتها

في اللحظة التي يغيب فيها حدٌّ فاصلٌ بين النصّ وتفسيره، تتحوّل الشريعة إلى ساحة سباق بين المدارس والقيادات. خذ مثلًا حركة الإخوان المسلمين: حين غزا صدام الكويت سنة 1990 أصدرت الجماعة بيانًا نارِيًّا يصف نظامه بـ«الفئة الباغية»، لكن بعد إعدامه عام 2006 وقف الشيخ يوسف القرضاوي على منبرٍ في الدوحة يشيد «برباطة جأش صدام وصلابته كالجبل». وبعدها بأعوام، في ذروة الثورة السورية، ناشد القرضاوي واشنطن أن تُكرِّر تدخلها العسكري كما فعلت في ليبيا—وهو الموقف النقيض تمامًا لخطابه المُندِّد باجتياح العراق. تتابع هذه التقلبات يُظهر كيف تُطرى الفتوى عندما يُسخَّر التأويل لخدمة الضرورات السياسية.

لكن المشهد لا ينتهي عند حدود التنظيمات الكبرى؛ التكفير الداخلي يشتعل كلما اعتقد فريق أن فهمه هو «الإسلام الصافي». في الجزائر التسعينيات، تبادل المسلحون فتاوى التبرير للقتل، كلٌ منهم يستند إلى شيخٍ يرى الآخرَ مرتدًّا. وفي ليبيا 2015، دار الجدل بين فصائل مسلحة حول جواز حرق آبار النفط؛ كل مجموعة جلبت نصوصًا وأقوالًا تُسوِّغ موقفها. النتيجة واحدة: دماء تُراق باسم تفسيرٍ يخاصم تفسيرًا آخر، بينما يظل النصّ القرآني المشترك بينهم جميعًا ينهى عن البغي وسفك الدم.

إنّ السلطة الحقيقية، إذن، ليست للنص بل لمن يملكه صوتًا وتأويلًا. متى أُفرِغت الساحة من «اجتهاد جماعي شفاف» صار كل خطيبٍ أميرًا على جماعته، يرفع من شاء إلى مقام «وليِّ الله» ويطيح بآخر إلى درك «الزندقة». القصص تتكرر: خطيبٌ يحلّل التظاهر يومًا ويحرمُه في اليوم التالي، وحاكمٌ يستدعي فتوى «إغلاق الأسواق وقت الصلاة» عند الخصومة، ثم يتجاهلها عندما يَمسُّ ذلك خزينة الدولة.

كيف نكسر هذه الحلقة؟ بفتح باب الاجتهاد للجميع، لا بحصره في مجلس مغلق. دع الفقهاء، والاقتصاديين، والأطباء، وعلماء الاجتماع يجلسون إلى طاولة واحدة. حين تُذاب جدران الاحتكار، يُصبح النص نورًا يَهدي لا سلاحًا يُقصي.

هل العلمانية تتعارض مع الإسلام؟

العلمانية ليست بالضرورة متعارضة مع الإسلام، فهي ليست حلًا سحريًا لكنها الحد الأدنى لضمان حقوق الجميع. يذكر المفكر علي الوردي في هذا الصدد: “لو خيّروا العرب بين دولتين علمانية ودينية لصوّتوا للدولة الدينية وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية”. ويلاحظ أيضًا أن المسلمين في الهند، رغم أنهم أقلية، يدافعون عن العلمانية لضمان حقوقهم.

إن المصطلحات مثل الانتخابات والدستور والجمهورية ليست إسلامية تاريخيًا، لكنها حاليًا أفضل الوسائل لحماية حقوق المواطنين. يقول البعض: “لو فهم العلماني الإسلام جيدًا، ولو فهم الإسلامي مبادئ العلمانية بعمق، لاتفقا على دستور يحترم حقوق الأغلبية ويحمي الأقلية”.

والقرآن صامت إلى حد كبير بشأن العلاقة بين الدين والدولة، إذ إن الدين يدعو في جوهره إلى الحرية والاختيار: “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”. كما كتب النبي محمد صلى الله عليه وسلم صحيفة المدينة التي تنظم العلاقة بين المجتمعات المختلفة مع احترام تنوعها، ما يشير إلى إمكانية توافق العلمانية مع القيم الإسلامية الأساسية.

الدين كمصدر للشرعية السياسية

الناس ليسوا حجة على الدين، بل الدين هو الحجة على الناس، لذلك يجب أن يكون النقاش دائمًا عن أفعال الأشخاص أو سياسات الدول، وليس عن الأديان نفسها.

عند التفكير في السياسة الأنسب لأي دولة، من المنطقي أن نعتمد على القاعدة الاجتماعية والثقافية لتلك الدولة. مثلًا، السياسة الأمريكية تستند إلى المعايير الأمريكية. وبالتالي، إذا كانت السياسة تهدف إلى دعم الشريعة الإسلامية في بلد معين، فيجب تطوير وتطبيق هذه القوانين بما يتفق مع إيمان وأعراف شعب ذلك البلد.

في المجتمعات التي تغيب فيها شرعية الحكم السياسي الواضح، يصبح الدين غالبًا مصدر الشرعية الأساسي. أمثلة تاريخية تدل على ذلك:

  • الفرعون في مصر القديمة والإمبراطور الياباني، اللذان اعتُبرا أنصاف آلهة.

  • الإمبراطور في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، الذي استمد شرعيته السياسية من الكنيسة وتنصيب البابا.

  • الخليفة في التاريخ الإسلامي، والذي هو منصب ديني وسياسي في آن واحد.

في غياب شرعية سياسية واضحة، يصبح الدين المصدر الأساسي وربما الوحيد للشرعية. هذا الواقع يؤدي إلى أشكال مختلفة من الأنظمة الثيوقراطية التي تندمج فيها السلطة الدينية والسياسية. قد تكون لهذا النوع من الحكم مزايا في تعزيز الوحدة الاجتماعية والسياسية، لكنه قد يؤدي أيضًا إلى تحديات فيما يتعلق بالتعددية وحقوق الأقليات.

بالتالي، فإن النظام الأفضل في مثل هذه الحالات هو نظام مختلط، تغلب عليه القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، ولكن وفقًا للشريعة التي يؤمن بها ويطبقها عامة الشعب.

كما قال ابن خلدون: “إن الملك والسياسة تتم بالقوانين العقلية والسياسية وإن كانت أحكام الشريعة تُعتبر فيها.”

مثال تاريخي آخر على هذه الفكرة هو من فترة حكم الخليفة عمر بن عبد العزيز. حين صُدم من ممارسات مجتمع الزرادشتية التي كانت تُعتبر محرمة في الإسلام، طلب النصيحة من الحسن البصري. أجابه البصري بأن الزرادشتيين طالما دفعوا الجزية، يجب أن يُتركوا ليعيشوا حسب أعرافهم دون تدخل من الحكومة.

الدين قد يكون مصدر إلهام للقوانين ولكنه لا يجب فرضه بالقوة. فقد رأينا في التاريخ أن فرض قوانين دينية بالقوة يؤدي إلى نتائج عكسية، مثل حالة منع الخمر في أمريكا في أوائل القرن العشرين، والذي أدى إلى مشاكل اجتماعية كبيرة. بينما قدّم الإسلام منهجًا مختلفًا، حيث ركز على تغيير قناعات الناس تدريجيًا وليس بالإكراه.

الغرب واستثمار الإسلام لأغراضه

كثيرًا ما يُقال إن الغرب يعادي الإسلام، لكن الواقع أكثر تعقيدًا و أن اقامة دولة إسلامية سوف يحرض الغرب, و لكن الغرب (مثل الشرق) يهتم لمصالحه, فبين السيتينات و التسعينات نشطت بشكل مكثف في الشرق الأوسط الحركات الشيوعية و الاشتراكية المدعومة من الاتحاد السوفيتي و التي كانت تتسم بالعلمانية, و هذا كان ضمن الحرب الباردة و الطاحتها قامت الولايات المتحدة و بريطانيا بتمويل و دعم الكتير من الحركات الأسلامية و هنا بعض الأمثلة التاريخية المهمة:

  1. أفغانستان: دعمت الولايات المتحدة المجاهدين ضد الحكومة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي في الثمانينات، مما أدى لظهور طالبان لاحقاً. (مع أن الحكومة الاشتراكية جائت عن طريق انقلاب عسكري وليس لرغبة شعبية) 

  2. مصر: دعم الغرب تحول السادات عن سياسات عبد الناصر العلمانية، وسمح بصعود الجماعات الإسلامية كموازنة للتيار الناصري.

  3. باكستان: دعم الغرب الجنرال ضياء الحق الذي قام بأسلمة الدولة وأطاح بحكومة ذو الفقار علي بوتو العلمانية.

  4. السعودية: دعم قوي من الغرب للنظام السعودي الوهابي لمواجهة المد القومي والاشتراكي في المنطقة، خاصة في عهد عبد الناصر.

توضح هذه الأمثلة أن الغرب لا يُعادي الإسلام كدين، بقدر ما يستثمر فيه أحيانًا لتحقيق أهدافه السياسية، مثل مواجهة المد الشيوعي والسوفييتي خلال الحرب الباردة.

دولةٌ تخدمُ الإنسان لا تُـسخِّره

في عامِ المجاعة أوقفَ عمرُ بن الخطّاب حدَّ السرقة، وقال: «لا تُقطعُ يدُ من أسرقَ في عامِ المجاعة»، لأنّ الناسَ مضطرّون للطعام. السلطةُ هنا وضعتْ الشريعة في خدمة الجائع، لا فوقه.

من هذه اللحظة نفهم القاعدة: الدين خادمٌ للإنسان، لا سيِّدٌ عليه. لكننا نعود فنصطدم بسؤالٍ مزمن: مَن يملكُ حقَّ الكلام باسم الإسلام؟ ما دامت المرجعيّةُ الموحَّدة غائبة، يبقى كلُّ فريقٍ يزعمُ أنه الصوتُ الأوحد للقرآن والسنّة.

يؤكّد التاريخ أنّ الدولة إذا تحولت غايةً بذاتها استعبدت الناس؛ فخلال أكثر من ثلاثةَ عشرَ قرنًا لم تتجاوز لحظاتُ الشورى الحقيقية قَدر غمضة عين قياسًا إلى عمر الخلافات الوراثيّة. ورغم ذلك يظلُّ الكلمة أقوى من السيف؛ أوّلُ ما نزل من الوحي كان «اقرأ»، لا «قاتِل».

هنا تبرزُ العلمانيّة كحلٍّ عمليّ. هي لا تطرد الدين؛ هي فقط تُحجِّم قدرةَ دولةٍ على فرضِ مذهبٍ واحد. انظر إلى المادة 25 من الدستور الهندي: تكفل حريةَ العبادة لكلِّ مواطن، في بلدٍ يضُمّ آلاف الديانات. المسلمون هناك يتمسكون بدستورٍ علمانيّ لأنه صمّام أمان لحقوقهم.

وقد سبَق المفكّرُ المصري علي عبد الرازق إلى هذه الفكرة سنة 1925 حين كتب «الإسلام وأصول الحكم»، مؤكّدًا أنّ الخلافةَ شأنٌ سياسيٌّ بشرِيّ، وليست ركنًا من أركان الدين.

العِبرة أنّ جودة الأشخاص أهمّ من لافتة النظام. يمكن لدولةٍ «دينيّة» أن تتحول سجنًا، كما يمكن لدولةٍ «مدنيّة» أن تُصبح فاسدةً إذا جلس على كرسيّها الطغاة. المطلوب آليّات تدفع بالكفاءات إلى الصدارة، وتُقصي الفاسدين، وتضمن تداوُل السلطة بلا دماء.

الدين سيبقى حاضرًا في ضمير المؤمنين، لكن الدولة يجب أن تُدار بالعقل، لا بالفتوى وحدها, إدارةَ السياسة تحتاج عقلًا يُدير تنوُّع المجتمع ويحفظ حقوق الجميع. عندها فقط تصبح الدولة بيتًا لكلِّ أبنائها، لا مُلكًا لفئةٍ تتلطّى خلف نصٍّ تحتكرهُ وتأمرُ الآخرين بالصمت.